خضر دوملي *
معلوم أن الحروب والنزاعات، والصراعات التي تشهدها المجتمعات، وخاصة المجتمعات التي تتميز بتنوع ديني وإثني ومذهبي، غالبا ما يكون عنصر الدين سببا في النزاع او مؤثرا فيه، أو يؤثر ويتأثر به، أذ كثيرا ما يتم أقحام الانتماء الديني او المذهبي ليكون أحد عناصر النزاع، لذلك يكثر الحديث عن كيفية تفعيل دور رجال الدين والمؤسسات الدينية في مرحلة ما بعد النزاع أو الصراع في المساهمة في تحقيق التماسك الاجتماعي وتعزيز المصالحة والاستقرار .
أن الأمر الرئيسي في هذا المجال يتمثل في أن يكون خط التفاعل بين ر جال الدين والمؤسسات المعنية بالشؤون الدينية وأيضا المراكز التعليمية للأديان ( معاهد تأهيل الخطباء وكليات الشريعة ومعاهد علوم الدين بأختلاف توجهاتها وهوياتها الدينية ) أن يكون متوازنا وتدعم تفعيل دور الدين في المجتمع باعتبار ان التأثر بالخطاب الديني بعد أي نزاع وخاصة عندما يكون ذا سبب ديني، او أضفي عليه غطاءا دينيا، يكون التأثر بالتوجهات الدينية وما يبثه المختصين بالشؤون الدينية، كبيرا وبارزا وواضحا في الممارسة اليومية. وتتمثل تلك الممارسات بظهور أنماط مختلفة وجديدة في التعامل اليومي، مثلا تظهر انماط جديدة من الملابس توحي بصفة للانتماء الى طائفة دينية او توجه ديني سياسي أو اطالة اللحى بشكل معين مثلا، او وضع رموز والشعارات الدينية وتعليقها في الرقبة، أو ربط القضية أية قضية وموقف تعد نتاجا لصراع أو نزاع بأن سببه الدين ، قصًر الدين فيه او لم يكن له رأي.
ولأن مستوى وعدد الصراعات التي يعد الدين سببا أو طرفا فيه ازدادت في العقود الأربعة الأخيرة، ارتفعت وتطورت معه الأسس الخاصة بتوظيف الدين ودور رجال الدين والمؤسسات الدينية في تعزيز المصالحة أو في تحقيق العدالة، خاصة ان المؤسسات الدينية التعليمية او التي تنظم شؤون الاديان او المرجعيات الدينية بات يؤخذ رايها في مشاريع التمساك الاجتماعي و تحقيق السلام، لأنه في الغالب يتم التركيز على خطاب رجال الدين ولايتم التركيز كثيرا على دور تلك المؤسسات عندما يتم النظر الى الدور السلبي للدين، ولكن بمجمله فان الامر او الخط الأساسي لهذا الجانب، أي دور الدين في المصالحة وتنمية الاستقرار في مرحلة ما بعد النزاع يمكن حصره في المحاور الستة التالية:
المحور الأول – التأهيل ودعم إنصاف الضحايا : إذ يمكن لرجال الدين والمؤسسات الدينية أن توجه في خطابها الديني وممارستها وفعاليتها المختلفة بدعم قضية إنصاف الضحايا، ودعمهم لكي يستطيعوا الاندماج في المجتمع بصورة سريعة ومتزنة. كما يمكن للمؤسسات الدينية ورجال الدين أن يكون لهم دور فاعل في قضية تحقيق الإنصاف لضحايا الصراعات، والإرشاد السليم للمجتمع في كيفية التعامل معهم وتوجيهه لكي يساند هؤلاء للخروج من محنتهم، خاصة عندما يتعلق جانب من المحنة بالتأثر بالدين ودعم عمليات الاندماج الاجتماعي حتى يتحقق الاستقرار والتماسك المجتمعي. باعتبار أن ذلك جزء أساسي ورئيسي في عملية التأهيل النفسي والاجتماعي، الذي يمكن للقادة الدينيين ان يؤدوا فيه دورا فاعلا، وتجربة أمير الايزيدية والمرجع الديني بابا شيخ في إصدار بيان دعم ومساندة الناجيات من قبضة تنظيم داعش في العراق ( نسخة من البيان مرفقة في نهاية المقال ) ، على أثر خطف التنظيم لألاف النساء عند هجومه على الايزيدية في سنجار في الـ 3 من شهر آب اغسطس 2014 ، كان له أثر واضح بأنه يمكن توظيف دور القادة الدينيين بالصورة الصحيحة، وتعد هذه تجربة كبيرة أعتبرته ممثلة الامين العام للامم المتحدة لقضايا العنف الجنسي (زينب هاوا بانجورا ) بأنه : انتقالة نوعية في دور قادة الأديان في عملية تأهيل الضحايا الناجين من العنف. وساعد هذا البيان ووفق شهادات دولية ومبعوثة الامين العام للامم المتحدة في دعم وتوفير الدعم الدولي والمحلي للناجيات من العنف الجنسي كما أنها ساعدت على تجاوزهم للتقاليد الاجتماعية، وهو الامر الذي لم يحصل الى الان لدى ممثلي الاديان الاخرى في المنطقة بضرورة دعم النساء الناجيات من تنظيم داعش وتعرضوا الى الاعتداءات الجنسية.
المحور الثاني – دعم المصالحة : يعتبر موضوع دعم رجال الدين لمشاريع الاستعداد للمصالحة ودعم تحقيق المصالحة أمرا مفروغا منه بأنه ذات تأثير كبير، فعندما يكون هناك مساهمة لرجال الدين والقادة الدينيين حضورا في عمليات المصالحة المجتمعية يساعد ذلك الأمر كثيرا في تحقيق الاستقرار بسرعة وايضا بتوازن، ويمكن لموضوع دعم المصالحة ان يدعو رجال الدين والخطباء اتباعهم الى دعم مسار وعملية المصالحة، أو يساندوا العملية باعتباره عملية تحقق الامن والاستقرار وهي مسألة تدعو وتعمل الاديان من أجلها، بأعتبار ان الجميع سيستفاد من تحقيق المصالحة في تعزيز الاستقرار وهذه العملية بالنهاية من أهداف الدين وهي تنمية الاستقرار النفسي والروحي لأتباعه.
المحور الثالث – العدالة الانتقالية : من المعلوم أن حدوث أي نزاع يتطلب بعده البدء بموضوع ومسيرة العدالة الانتقالية، ويكون ذلك إما بإنشاء مؤسسات العدالة الانتقالية أو لجان أو مشاريع مؤقتة اي محددة بفترة معينة للعدالة الانتقالية، وهذا الأمر يتطلب دعم مختلف المؤسسات ومنها الدينية، وقادة المرجعيات الدينية لأنه يتطلب إقرار تشريعات جديدة في كثير من الأحيان يعتبرها بعض ممثلي الأديان بأنها تستهدفهم مباشرة، أو تقلل من مكانتهم، كما أن الأمر يتطلب دعمهم للمشاريع تعزز تحقيق العدالة الانتقالية لأهدافها وخاصة عندما يكون هناك دعم من قبل رجال الدين وان لاترتبط بوقوف رجال الدين في طريقها، خاصة عندما يتعلق الأمر بفقدان بعض رجالاتها لمكانتهم الاجتماعية . اي بما معناه لابد ان يكون لرجال الدين دور ايجابي في إصدار تشريعات جديدة تتعلق بتحقيق العدالة، وأن لا يقفوا في طريق صياغة تشريعات تساعد على تحقيق العدالة، لأنها النقطة الأهم في مضي عملية المصالحة بآمان. اذ في النهاية فأن المستفيدين هم ابناء المجتمع بمختلف انتمائاتهم، هنا أيضا ان موضوع دعم المؤسسات الدينية ورجال الدين لتحقيق العدالة الانتقالية يعني أضفاء الشرعية على المسألة ويؤدي الى سرعة تطبيق القرارات مجتمعا، كما أن الجانب الاخر المهم هو دعم رجال الدين والمؤسسات الدينية في مسألة تقديم الجناة للعدالة وتطبيق القانون له اهمية كبيرة ويكون أمرا مصيريا في المضي بتحقيق العدالة بسبيل أسلم.
المحور الرابع – التماسك الاجتماعي : بعد حدوث عمليات تحقيق السلام او عند النزوح والتشرد بسبب الصراعات والحروب تكون برامج التماسك الاجتماعي الأكثر حضورا ، ولذلك فإن دعم رجال الدين لبرامج التماسك الاجتماعي أمر مهم لأنها تساعد على إعادة بناء الثقة بين المواطنين وزيادة التواصل الفعال ودعم برامج التعاون بين المتأثرين بالنزاع من نازحين او من أتباع المكونات الدينية المختلفة، وعندما تحصل برامج التماسك الاجتماعي على دعم القادة الدينيين يكون تأثيرها سريعا، وعندما يساهم فيها رجال الدين بشكل مباشر يكون تأثيرها مباشرا، لذلك فإن توظيف دور رجال الدين والقادة الدينيين والمختصين بالشؤون الدينية في برامج ومشاريع التماسك الاجتماعي يؤدي إلى سرعة تحقيق الاستقرار، وزيادة التفاعل والتواصل والتعاون بين مكونات المجتمع المختلفة، مما يعني بناء قاعدة للاستقرار والسلم الاهلي .
المحور الخامس – مواجهة خطاب الكراهية على أساس الانتماءات : مع اندلاع أي نزاع ونهايته، وخفوت ناره، وتراجع تأثيره، يكون تأثير خطابات الكراهية والعنف والتطرف حاضرا لمرحلة ما بعد النزاع، سواءا جاءت تلك الخطابات من قبل رجال الدين مباشرة او مغلفة بغطاء سياسي، خاصة اذ علمنا بأن خطابات الكراهية في مختلف مراحل النزاع مرافقة لتلك النزاعات سواء النزاعات على اسس دينية او اثنية أو وفقا للانتماءات المختلفة، وهذا الأمر يكون أكثر تأثيرا في مرحلة ما بعد النزاع، لذلك فإن تفعيل دور رجال الدين وعلماء الدين في مواجهة خطاب الكراهية على أساس الانتماءات أو على أساس الهويات الدينية والاثنية يعد أمرا مهما، يتطلب أن يكون هناك خطط للمؤسسات الدينية في توجيه رجال الدين والخطباء لكي يكونوا بمستوى المسؤولية في أن يتجه الخطاب الديني لتعزيز التواصل وتقبل الآخر المختلف دينيا أو تقبل النقد الموجه لتدخل رجال الدين بطريقة سلبية في مسيرة تحقيق السلام وتحقيق وتنمية الاستقرار في مجتمعات مابعد النزاع.
كما أن مسالة توجيه فعاليات ونشاطات المؤسسات الدينية تكون مركزة لمواجهة تلك الخطابات بشكل مباشر وغير مباشر، عبر وسائل الاعلام خاصة من خلال توظيف خطباء قادرين على استيعاب التطورات الناشئة من النزاع وتوجيه الناس بالطريقة الصحيحة لكي يكونوا سندا لعمليات المصالحة والتماسك الاجتماعي بهدف تحقيق الاستقرار عبر توظيف الخطاب الديني بشكل ايجابي اعلاميا، وهي مسألة هامة جدا خاصة اذا علمنا ان توظيف الخطاب الديني بطريقة غير سليمة في وسائل الاعلام كثيرا ما تكون سببا في تشعب النزاع وتوجهه بطريقة يصعب السيطرة عليها، وهو ما يتطلب ان تركز الخطابات على دعم مشاريع السلام والمصالحة والتماسك الاجتماعي حتى لايتم تحريف دورها وتوجيه مسارها بطريقة غير سليمة.
المحور السادس – التنمية لما بعد النزاع : يتمثل مساهمة رجال الدين وعلماء وقادة الأديان والمؤسسات الدينية في عملية التنمية – الاقتصادية والمجتمعية في مرحلة ما بعد النزاعات في عدة اتجاهات الاول منه يبدء بدعم تطوير قطاع التربية، لأن التأثر بالتوجهات الدينية في المناهج التربوية يعتبر في كثير من الاحيان سببا لترسخ افكار راديكالية ومتطرفة بنظر البعض، مما يتطلب تجاوز التابو المقدس في المساس بالمنهج الديني وفق اسس معتدلة حتى يكون ملائما لمرحلة ما بعد النزاع.
فيما الاتجاه الثاني يتمثل في دعم القادة الدينيين ورجال الدين لعمليات التنمية الاجتماعية وتنفيذ المشاريع، وتشجيع اتباعهم على المساهمة فيها بشكل طوعي، وايضا دعمها كي تسير وفق المسار المحدد له. والاتجاه الثالث الخاص بالتنمية يتمثل في مرحلة ما بعد النزاع هو تفعيل دور المؤسسات الدينية والمختصين في الشؤون الدينية ان لايقفوا حجر عثرة في طريق تنفيذ المشاريع الاقتصادية خاصة تلك التي تتعارض ومصالح بعض اصحاب النفوذ الذين يتسترون بالدعم المقدم لهم من المؤسسات الدينية، ويركزوا على مواجهة الفساد حتى لاتذهب الاموال المخصصة للتنمية هدرا ، فتكون سببا في حدوث الفوارق الطبقية مجددا و ارتفاع مستوى الفقر والظلم الاجتماعي، وظهور بؤر جديدة للتطرف والارهاب.
ان هذه المحاور الرئيسية في تفعيل دور الدين والمؤسات الدينية في عملة الاستقرار والتنمية والتماسك المجتمعي لمرحلة ما بعد النزاعات تؤكده الدراسات الحديثة الخاصة بحل النزاعات، التي تعطي اهمية كبيرة لدور رجال الدين والقادة الدينيين في ان لايكونوا طرفا في تأجيج النزاع بل طرفا مساندا في دعم مشاريع تحقيق وبناء وتنمية السلام وتنظيم الشؤون السياسية وفق الرؤى التي تحتضن التعددية والتنوع وتتوافق ومتغيرات الواقع الاجتماعي الناتج من النزاع، وفق الرؤية الخاصة بتحقيق العدالة الاجتماعية لجميع افراد المجتمع بعيدا عن انتمائاتهم.
لابد من القول ان التجربة العملية التي قمت بها منذ اكثر من عشر سنوات في مجال التدريب في مجال الحوار والتعايش الديني، وايضا المتابعة بدقة عن كيفية مواجهة مرحلة ما بعد القضاء عسكريا على تنظيم داعش تتطلب العمل وفق المسارات أعلاه لتوظيف دور الدين – المؤسسات الدينية بمختلف توجهاتها وهوياتها وانتمائاتها ودور رجال الدين وعلماء وقادة الاديان – بشكل ايجابي في تحقيق المصالحة وتنمية الاستقرار لمجتمعات مابعد النزاع، ولاحظنا أهمية نشر بيان من قبل اتحاد علماء الدين الاسلامي في اقليم كوردستان ( بيان مرفق في نهاية النص ) حول قضية سبي الايزيديات او البيان الذي اصدره دار الافتاء العام في مصر ودائرة الفتى في المملكة الاردينة الهاضمية بأعتبار ان ما حصل للايزيدية من قبل تنظيم داعش في قضية سبي النساء و الخطف من أنها جريمة ( البيان مرفق في نهاية النص ) اذ كان له أهمية كبيرة في التأثير على نمط الخطاب الديني رغم ان هذا الامر لم يوظف بالشكل الصحيح بسب قلة خبرة وسائل الاعلام للعمل في هذا الاتجاه، وهو ما يتطلب ان يتفهم مراسلي الصحف والقنوات التلفزيونية في كيفية توظيف هذه المواقف لصالح تاثير الدين في تنمية السلام والتماسك الاجتماعي أذ تؤكد الدراسات الدولية لدور الدين في حل الصراعات على هذا التوجه أيضا بشكل كبير، بأعتبار أن هذا الامر يسرع من تحقيق المصالحة والعدالة وانصاف الضحايا ودعمهم من قبل المؤسسات الدينية ومرجعياتها.