خضر دوملي *
يشهد العالم اليوم الكثير من المتغيرات الاجتماعية في المناطق التي تشهد النزاعات او الصراعات، والتي احيانا او غالبا بسبب التعدديةPluralism والتنوع Diversity التي جاءت نتيجة السياسات الخاطئة او الفاشلة التي تتبعها الحكومات في تعاملها مع التنوع والتعددية. وأضحت تلك السياسات سببا في حدوث النزاعات وتغير البنى التحتية الاجتماعية للكثير من البلدان والدول على السواء.
بداية لاتزال او لايزال مفهوم التعددية من المفاهيم التي تتداخل في اهميتها والحديث عنها مع مفاهيم سياسية اخرى في منطقتنا، في وقت أخذت الفكرة استقلاليتها منذ زمن طويل في العديد من المؤسسات البحثية الغربية خاصة، عليه لابد من الاشارة ان التعددية لاتقتصر فقط على السياسية، بل الثقافية، الاجتماعية، الدينية، القومية، الاثنية والمذهبية وحتى اللغوية والمناطقية.
فقد ورد مصطلح التعددية كمفهوم سياسي في الكثير من الدراسات التي تخص الديمقراطية والنظم السياسية الحديثة، في وقت بدأ هذا المفهوم يأخذ صور اخرى و معاني ومدلولات تتناول اسلوب وشكل ادارة الحكم في المجتمعات التي تتميز بالتنوع والتعددية مؤخرا بشكل واسع.
وبما ان ظهور التعددية يرجع الى الحضارات القديمة ( اليونانية ) وكذلك الحضارة الحديثة في الغرب وامريكا واسيا واستراليا وغيرها من الدول التي تلتزم بمقررات ومقومات التعددية نظريا وعمليا ، اصبحت في الوقت الحاضر من سمات دولة اليوم، خاصة انه بحسب احدث دراسة فأنه من بين 193 دولة تتمتع 12 منها فقط بالتجانس الثقافي ، مع وجود 575 جماعة اثنية بحسب عالما السياسة ( جونار نيلسون و رالف جونز) تم تحديدها او تعريفها، وفق ما اوردته (د. كردستان سالم سعيد – اثر التعددية الاثنية على الوحدة الوطنية في العراق – ص45 ).
وتقول د. كردستان بأن التعددية هي “تعبير حقيقي وامين عن وضعية الانسان الاقتصادية والاجتماعية وتعبر عن التنوع والثراء في جوانب الحياة وفي الادوار التي يقوم بها الناس، وهي ليست شكلا سياسيا او تنظيميا قانونيا” .
بما ان الرؤية التاريخية ليست هي المهمة لنا في هذا المقال فأن الاشارة اليها بعض الشيء لابد منها لكي نفهمها وفق سياقها التاريخي ، لأنها – التعددية – وصفت دائما بأنها مصدر للثراء والتطور والتنوع الذي تتميز به المجتمعات، والتي ترتبط بالهوية والتنوع الثقافي اكثر من غيره من الانتماءات. ففي وقت هناك تعريف اخر للتعددية يشير بأنها : بمنظور علم الاجتماع عبارة عن اطار للتفاعل تَظهر فيه المجموعات التي تحترم التسامح مع الآخرين والتعايش المثمر والتفاعل بدون صراع وبدون انصهار…. وتعد التعددية من أهم ملامح المجتمعات الحديثة والمجموعات الاجتماعية، وربما تعد مفتاحاً لتقدم العلم والمجتمع والتنمية الاقتصادية. ( ويكيبديا ). اي ان قيمتها وصلت لدرجة ان تصبح عاملا فاعلا للتقدم و التنمية للمجتمع، وهو ما تنظر اليه الامم المتحدة بأهتمام كما سنرى لاحقا.
لكن يتناول د. مروان دويري في بحث له نشر في (مجلة عدالة الإلكترونية، العدد السابع، تشرين ثاني 2004 بعنوان، التعددية الثقافية/القومية: الداخلي (العربي) والخارجي (الدستوري)) مفهوم التعددية من عدة اتجاهات تعد الاكثر حداثة ضمن هذا المجال و تبين اهمية هذا الامر في ادارة المجموعات وما تختلف عنه مع الديمقراطية بل يصفها بأنها (اتفاقية تعامل) وانها تعترف بالمجموعات على خلاف الديمقراطية ، اذ يشير د. مروان “تعطي التعدديةُ شرعيةً للمجموعات (السياسية والثقافية والعرقية والقبلية والطائفية) وحقها بالبقاء وممارسة دورها كمجموعة في النظام السياسي للدولة. إنها “اتفاقية تعامل” بين مجموعات وليست بين أفراد مستقلين وغير منتمين”.
مع وجود الكثير من الاراء والتعريفات من المهم الاشارة اليها بغية معرفة جوانب هذا المصطلح على افضل وجه لابد لنا من التطرق الى ما ذهبت اليه د. كردستان في المصدر الذي سبق الاشاره اليه اعلاه اذ تقول ” ان الاختلاف امر طبيعي في الاجتماع الانساني وهو الوجه الاخر والنتجية الحتمية لواقع التعدد” اي ان التنوع يجب ان يصبح سمة انسانية لأنها النتيجة الحتمية لواقع التعددية والذي يعدا عاملا للاستقرار اذا كان انعكاسا للواقع الانساني وليس العكس.
لكن باحثين اخرين يربطونها بشكل نظام الحكم او النظام السياسي الذي يخص التعددية اولا ، او كما يقول “هنري كاريل ان التعددية ترتيبات مؤسسية خاصة لتوزيع السلطة الحكومية والمشاركة فيها” او كما يقول عابد الجابري بأن التعددية هي وجود صوت أو أصوات أخرى مخالفة لصوت الحاكم “. أما الدكتور سعد الدين إبراهيم فيعرف التعددية السياسية على أنها ” مشروعية تعدد القوى والآراء السياسية وحقها في التعايش والتعبير عن نفسها والمشاركة في التأثير على القرار السياسي في مجتمعها “. بينما عرفتها الدكتورة ثناء فؤاد بأنها ” الإقرار بوجود التنوع، وأن هذا التنوع يترتب عليه اختلاف المصالح والاهتمامات والأولويات “. وقد أشار هنري كاريل إلى التعددية بقوله أنها ” ترتيبات مؤسسية خاصة لتوزيع السلطة الحكومية والمشاركة فيها “. نقلا عن سليم فرحان جيثوم (التعددية السياسية والتداول السلمي على السلطة)، مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية 2008.
فأذا كانت التعددية تعطي هذه الصورة لشكل نظام الحكم فانها الخطوة التي تلزم القائمين بالحكم والذين وصلوا اليها وفق اسس ديمقراطية بأنهم ملزمون لضمانة حقوق جميع المجموعات وليس مراعاة مصالح الاغلبية ، اذ صار هذا الامر هو الذي يشكل عقبة امام توارد التغيرات في شكل انظمة الحكم على مستوى العالم وهو الامر الذي يرتبط مباشرة بالسياسات الحكومية في تعاملها وتعاطيها مع التعددية ( الثقافية، الدينية، السياسية ، القومية …..والخ) .
ان هذه الرؤية الحديثة في اهمية التعددية تعطيها دفعا كبيرا لكي تأخذ الاهتمام من قبل القائمين في الحكم، وخاصة الذين يديرون دفة الامور العامة وذلك بضرورة ان يساهموا في المحافظة على حقوق الجميع بعيدا عن أية انتماءات لأن التعددية كما يقول د. مروان “تحفظ حقوق الآخر” وان التعددية تنطلق من رؤية الذات والآخر في “كل” واحد وتدفع نحو موقف “يعطي” للآخر في نفس الوقت الذي “يأخذ” للذات. لذلك فالتعددية هي آلية وقيمة تحول دون اضطهاد أو استقصاء مجموعة اومجموعات معينة في اي مجتمع.
رؤية سياسة لممارسة التعددية
قبل البدء في كتابة هذا الموضوع كنت في نقاش مهم مع احد الساسة حول تأثير السياسات العامة للحكومات على ترسيخ التعددية بكل وجوهها، لكن كان رأيه ميالا اكثر الى ترك الامر الى شكل نظام الحكم ليقرر، بعيدا عن السياسات العامة الية التعامل مع التعددية بكل صنوفها ووجوهها، والتي قصد بها الادارة في مستوياتها الدنيا والتي ترتبط بواقع الحياة اليومية من قبل رجال السلطة اينما كانوا. السياسي كان يتصور لو انه تم مراعاة كل ما تذهب اليه التعددية فان ضمانة ادارة فعالة ستصبح من الصعوبة، وتركزت مخاوفه في الاسئلة التالية : هل يعني تطبيق او ترسيخ التعددية مشاركة جميع فئات المجتمع في الحكم ؟ هل يمكن ان تكون التعددية بديلا او اسلوبا لادارة المجتمع؟ ماذا ينتج من عدم تطبيق او ترسيخ التعددية؟ ما هي استعداد الاحزاب السياسية في الاهتمام او ممارسة التعددية؟ الى اي حد يمكن للتعددية ان تكون عائقا امام استقرار المجتمع؟ و و و سيل من الاسئلة الاخرى التي ستؤخذ مسارها في سياق المقال .
ان النظر الى سياسة الحكومات حديثة العهد في تعاملها مع التعددية تبين ان الامر لم يأخذ الاهتمام الكافي حتى تصبح متوافقة مع المعايير الدولية بهذا الخصوص ، واذا كانت الامم المتحدة في ادبياتها تشير بضرورة مراعاة التعددية والتنوع في المجتمعات فأنها وضعت بما يشبه خريطة العمل ايضا للتعامل مع التنوع الثقافي ( multiculturalisme ) الذي هو اساس التعددية بمفهومها العام.
ان هذه الرؤية هي نتيجة طبيعية لواقع او لمستوى فهم الساسة الذين لايمتلكون اية تصورات عن المفاهيم الحديثة في الادارة السياسية، او الذين يتصورون ان فئة واحدة وفق تصوراتها تستطيع ان تحكم دون الاهتمام بمصالح و خصوصية فئات اخرى، حتى وان كانت ضعيفة وصغيرة جدا. ان ضمانة التنوع الثقافي لايصبح جزءا من المسؤولية للسلطات العمة التي تمثلها الحكومات… او كما يقول ( ارمان ماتلار في كتابهة التنوع الثقافي والعولمة – 2008 ص 14 ) ان “التنوع الثقافي بصفته مكونا اساسيا للحقوق الانسانية هو ظاهرة جديدة، الا ان مساره ليس كذلك”.
هذا الامر يدعونا للتوقف عن مستوى الفهم لدى الساسة الذين لايمتلكون الكثير من المؤهلات في كيفية ضمانة التعددية الثقافية، التي تعد الارضية الخصبة لبناء مجتمع يسوده الاستقرار بسبب شعور الجماعات المختلفة ان السياسات الحكومية تخصها وتتناول واقعها كما تتناول واقع الجميع وبالذات الاغلبية.
او كما يقول د. مروان دويري في المصدر الذي سبق الاشارة اليه بأن “التعددية أداة مصالحة وتعايش: الديمقراطية الفرديةُ أداة غلبة (تغليب الأكثرية على الأقلية) بينما التعددية أداة مصالحة وتعايش وفسح المجال للآخر لينسجم في فسيفساء المجتمع الواحد ويسهم في إضفاء لون وطعم خاصين. إن فرض الديمقراطية الليبرالية في مجتمع جماعي من شأنه جعل مجموعات الأقلية المبعدة – التي تمتلك خصوصية ثقافية مختلفة – أن تلجأ للسلاح والعنف أو جعل مجموعة السلطة المهددة أن تتراجع عن الديمقراطية (كما حصل في الجزائر مثلا).
السياسي لم يكن يملك اية معلومات عن فوائد ترسيخ التعددية لذلك لجأ الى القول ان ذلك يقف عائقا في تطبيق الديمقراطية ، في الوقت الذي تسير ديمقراطية الوقت الحاضر الى ضمانة حقوق جميع المكونات قبل التي تقود دفة الحكم اي الاغلبية … ومن هنا فأن السياسات الحكومية هي انعكاس لذلك الامر في سبيل سد الباب امام الفرقة والعنف والتشرذم وتفتيت المجتمع ونشوب الخلافات والصراعات وعد ترسيخ تناول او تدوال السلطة و تبادل الاداور في تنمية المجتمع ، اذ يضيف د. مروان بأن التعددية فكر ينبذ التعصب: بعكسِ التعصب القبلي، التعددية فكر وموقف تتثقف فيها الأجيال على أن هنالك أكثر من “صح” واحد وبأن تحقيق الذات الجماعية والفردية يتم بموازاة مع ضمانِ ذات الآخر وحقوقه الجماعية (أنا وأنت معا).
ومن اجل ان يتم العمل لترسيخ التعددية فأن من الضروري معرفة انها من عوامل الانتقال المهمة للمجتمعات التي تشهد سيطرة نظام الحزب الواحد والقائد الواحد فكما يقول دويري “التعددية ليست آلية تكريس للوضع القبلي القائم بل هي آليةَ تفاعل وتحرك تمكن الأفراد والجماعات من التفاعل فيما بينها بشكل صحي وبالتالي الانتقال والتطور دون تغليب طرف على آخر. أعتقد بأن الحوار الاجتماعي الدائر في جو تعددي يسمح بالتغيير والتطور أكثر من الحوار الدائر في أجواء حرب تنفي شرعية الآخر. لذلك فالتعددية نهجا وموقفا من شأنها أن تدفع ثقافتنا الجماعية إلى الأمامِ نحو شيء جديد منبثق من ماضينا وتراثنا”. وهذا كله لن يصبح واقعا عمليا اذا لم تصبح جزءا من السياسات العامة وحينذاك لن تكون اجابة السياسي كما كانت و الاجوبة على اسئلته جاءت في سياق الشروحات اعلاه.
تجربة العراق الجديد مع التعددية
يقينا انه وفقا للبحوث والدراسات الحديثة التي تتناول واقع العراق الجديد وخاصة بعد 2005 فأنها تجد ان العراق انفتح كثيرا على كل مكوناته واثنياته، واصبحت هي الاخرى تعبر عن هويتها ومكنوناتها بحرية كبيرة، وجاء ذلك وفق ما اشار اليه الدستور العراقي لعام 2005 الذي يشير بوضوح ان العراق يتكون من مجموعة كبيرة من المكونات وردت اسمائها بصيغ مختلفة- فلأول مرة يأتي ذكر الايزيدية كديانة رسمية في العراق ولها حق الاقرار بخصوصتها الدينية، وكذلك بالنسبة للصائبة وان كانت الاشارة الى المسيحية في الجانب الديني قد سبق الاشارة اليها في الدساتير السابقة، وشهد الانفتاح على الاثنيات المختلفة، التي اقرت بشكل اكثر وضوحا في نظام كوتا الاقليات، اذ انظم الشبك للقائمة كاثنية لها حق التمثيل السياسي، والان التجربة مستمرة بشكل او بأخر مع مكونات اخرى في مجالات اخرى .
ان فكرة التعددية السياسية هي الاخرى كانت الجانب الاكثر ظهورا و ترسخا في العراق الجديد وتمثل ذلك الامر بوجود العشرات من الاحزاب والتنظيمات السياسية ، واذا ما راينا هذا الجانب من التعددية فأنه يمثل رؤية لترسيخ هذا المبدأ على المدى الطويل، رغم عدم وجود قوانين تنظم هذا الامر او الجانب من التعددية لكي يكون اكثر وضوحا في خدمة تنمية المجتمع، لأن تنظيم التعددية وفق القانون يعد امرا هاما لابد منه كي لاتصبح نقمة في وقت انها نعمة وعنوان للتنوع وتواصل للارث الحضاري والثقافي والتاريخي للشعوب.
حقيقة هناك جوانب كثيرة للتعددية في العراق يتمثل الامر بما اشار اليه رشيد خيون في كتابه ( الاديان والمذاهب بالعراق – طبعة منشورات الجمل 2007 ) في اكثر من موقع الى التنوع الديني والمذهبي الذي يشهده العراق و اهمية مراعاة هذه الخصوصية التي وصفها – العراق – من انها خارطة غنية بالتنوع. وتعتبر شهادة رشيد خيون في هذا الكتاب كما في غيره من الكتب عنوانا مهما للارث الحضاري للعراق الذي توجد فيه العديد من المكونات لايمكن الغاء وجودها ، تعتبر شهادة على ان التعددية اصبحت جزءا علنيا من التراث الثقافي الحاضر والذي تم الاقرار به علانية ورسميا. وهذا الامر هو واحدة من اسانيد التعددية وهي الاقرار بالوجود والحفاظ عليه وترسيخ القبول به وضمانة حقوقها – كل المكونات ( الدينية – المسلمين ، المسيحية، الايزيدية، الصابئة، الكاكائية، البهائية ) و الاثنيات المختلفة الاخرى ( القومية عرب، كورد، تركمان، كلدو اشوريين وسريان وارمن والشبك والشيعة والسنة وغيرها من المكونات) – بعدالة بما يجعلها مساهمة ومشاركة في بناء البلد وليسي اعطائها اية حقوق كمنة من المنن، لأنه بحسب خيون ” ان الاديان والمذاهب كافة لديها فسحة من التسامح، قد تضيق وتتسع، وبالنتيجة لم يصل الامر الى ألغاء الاخر” اذ يعد مسألة قبول الاخر والعمل بمقررات التسامح واحدة من اسس تنمية التعددية كما تشير اليه مقررات الامم المتحدة في اعلان اليونسكو1995 بشأن التسامح في جزء الهوية والتنوع والتعددية – المادة 4 ان ” الدفاع عن التنوع الثقافي واجب اخلاقي لاينفصل عن احترام كرامة الانسان. فهو يفترض الالتزام باحترام حقوق الانسان والحريات الاساسية، وخاصة حقوق الاشخاص المنتمين الى اقليات وحقوق الشعوب الاصيلة” ( مبادىء التعددية والتنوع – اعداد خضر دوملي – دهوك 2011).
ان السياسات الحكومية هي التي تساهم في تنمية هذا الامر وترسيخ هذا العامل بما يجعل التنوع والتعددية ممارسة يومية ، وبما يساعد اتباع هؤلاء الجماعات بعدم الشعور بالخوف في الاعلان عن انتمائاتهم وهوياتهم الثقافية، السياسية، الدينية، الاثنية ،،، والخ.
ان النظر الى الواقع الحالي للعراق في تعامله للتعددية لايعد كونه كما يقول المثل ( ذر الرماد في العيون ) ليس الامر اكثر من مسألة الاقرار بوجود التعددية علانية وعلى لسان المسؤولين الحكوميين في اكثر من مناسبة ولكن العمل الفعلي لم يرتقى الى ما تشير اليه مبادىء اليونسكو بعد من اجل ضمانة التعددية .
ان الانتقاد الذي يوجه للسياسات الحكومية في العراق في تعاملها مع التعددية يرجع الى كون ان هذا الامر لايزال حديث العمل به والاقرار بوجوده في الفلسفة السياسة والخطاب الديني الذي يترك الاثر الكبير على هذا الامر كذلك كون هذا المفهوم والمصطلح ينظر اليه بشكل كبير كعامل للتفتيت، وليس للاتحاد الذي يتميز بالتنوع والثراء بالنسبة للواقع العراقي. هذا الامر يظهر من خلال تقيم السياسات الحكومية، التي تمارس التهميش والاقصاء المتعمد ضد المكونات الاخرى، فمثلا لايزال البهايئة غير معترفين بهم كديانة لها خصوصيتها وهويتها، من واجب الحكومة اقرار التشريعات التي تعطيها الحق بالاقرار بوجودهم في العراق، وممارسة حياتهم وشرائعهم بلا خوف، وبعلانية ، بعد المعاناة المريرة لهم من سياسات حزب البعث في سبعينات القرن الماضي والى الان . وتوازيا مع التعددية الدينية من الصعوب بقبول الايزيدية والمسيحية في الكثير من المسؤليات لرفض العلني على تولي غير المسلمين لولاية امورهم وشؤونهم ، و مع هذا الامر لايمكن اهمال الكورد الفيلية بأعتبارهم اثنية لها خصوصيتها التي تعمل وتناضل الى اليوم من اجل الاقرار بما تعرضوا له ومنحهم حق التمثيل السياسي و مطالبهم في هذا المجال كثيرة ومستمرة اخرها مطالبهم في ذكرى اليوم العالمي للاختفاء القسري 20 اب اغسطس 2013 وذلك بمطالبة الاتحاد الديمقراطي الكوردي الفيلي ” السلطات العراقية الثلاث بتقديم اعتذار رسمي عن جريمة الاختفاء القسري التي ارتكبها النظام السابق بحق 20 الف شاب من هذه الشريحة، منتقدةً عدم جدية الحكومة الاتحادية بمتابعة وتوفير المعلومات عن هذه القضية”. نقلا عن موقع شفق نيوز .
ان الاقرار بالتعددية تأتي من هذه الجوانب وذلك باعتراف السلطات والاقرار بما عانته فئة من فئات المجتمع والعمل بمبدأ التعويض ورد الاعتبار عمليا، فهل نسمع يوما اعتذار الحكومة العراقية للمسيحيين والايزيدية على ما اقترفته الحكومات السابقة بحقهم من تغير الهوية و ممارسات التعريب والترحيل والتهجير ونفس الامر بالنسبة للكورد والتركمان وغيرها من المكونات، وهو ما تتهرب منه الحكومة العراقية في اكثر من مناسبة ومع اكثر من فئة ايضا، اذ ان الاعتذار بداية لقبول الاخر المختلف رسميا. فتماشيا مع هذا الامر يحس الايزيدية بنفس المعاناة، فرغم اقرار الدستور بوجودهم وهويتهم ألا انهم يتعرضون باستمرار الى التهميش والتقل والاقصاء و اكثر الامور التي يرى الايزيدية ان الحكومة العراقية غير جدية هو اقرارها بفشلها في توفير الحماية للمكونات الدينية او كشف الجهات التي تقف بالضد من الاقرار بوجودهم وهذا الامر ليس ببعيد عن المسيحية و غيرها من المكونات ايضا، فكثيرا ما طالب الصابئة بتوفير الحماية لاماكن عباداتهم لكن خطاباتهم وندائتهم تذهب الى حيث لايسمع احد عنها كما تنشر هذه النداءات بشكل واسع في الكثير من الصحف والمجلات التي يشرف عليها هؤلاء. ويبدو ان المسؤولين العراقيين لايزالوا يجهلون مقررات التعددية والتنوع وخاصة الشعوب الاصيلة التي تعد الاساس للذين يحملون هويات اثنية ودينية وقومية ، والتي تتسبب في عدم الانسجام والتفاعل فيما بينها وتنمية الاحساس بقبول التنوع كعامل انساني ايضا، لكل شخص حق في الحياة حتى وان كان منتميا لأقلية لأنها عامل ثراء ثقافي، اجتماعي . او كما يشير اليه اعلان اليونسكو الذي سبق الاشارة اليه في المادة الثانية ص 37 ( من التنوع الثقافي الى التعددية الثقافية) ” لابد في مجتمعاتنا التي تتزايد تنوعا يوما بعد يوم، من ضمان التفاعل المنسجم والرغبة في العيش معا فيما بين افراد ومجموعات ذوي هويات ثقافية متعددة ومتنوعة ودينامية”. ولابد لهذا الامر ان يأخذ مكانه في السياسات الحكومية، العملية او القرارات العامة التي لاتفرق بين المجموعات، او التي لايظهر فيها التميز في التعامل، لكن هل هذا الامر موجود في السياسات الحكومية العراقية ؟
ان الاجابة على هذا السؤال بالامثلة امر هام ، او لنقل الاشارة الى بعض الامور التي لها علاقة بهذا الموضوع له اهميته، كون العراق قد خرج من شكل نظام حكم دكتاتوري ذي السيطرة للحزب الواحد الى نظام تعددي يقر بوجود الاخرين المختلفين في الاراء والتوجهات والانتماءات ، ويمكن لهذا الامر ان يكون اكثر وضوحا وحضورا لو ان الاستقرار الامني كان موجودا، لكن حتى هذا الاخير يعد عاملا ضد التعددية والتنوع، لأن اكثر العمليات التي تقوم بها المجاميع الارهابية تستهدف المختلفين ( اثنيا- دينيا – قوميا ومذهبيا ايضا ).
وايضا في الجانب الاخر من الرؤية للتعددية كما يقول د. علي كريم سعيد في ( حول مستقبل العراق السياسي -2004 ص 177) ان من مشجعات الديمقراطية في العراق هو التوازن الاجتماعي والسياسي والقومي والديني بين اطراف النسيج المكون للمجتمع العراقي . اي ان الاقرار بالتعددية والتوازن بين جميع المكونات عامل مهم من عوامل تنمية الديمقراطية، فأذا كانت عوامل الانفلات الامني المستمر والارهاب تقف في طريق هذا الامر نتصور ان العمل بالاتجاه المعاكس هو الجواب على ذلك اي اشراك الجميع في صياغة ورسم القرارات واقرار السياسات العامة على مستوى القاعدة في السلطة التنفيذية، حتى يشعر الجميع ان لهم الصوت و المساهمة والمكانة بما يجعلهم متساوون في الحقوق والواجبات.
ان النقد الموجه للحكومة العراقية في عدم مساهمتها بفعالية في تنمية سياسة التعددية الثقافية يتمثل بوضوح في عدم قدرة الحكومة ومسؤوليها على ترسيخ سياسة قبول الاخر المختلف الى جانبه في اقرار السياسات العامة، وهذا الامر لايحتاج الى الكثير من التشخيص، اذ يمكن ملاحظته في غياب ذوي الشأن في القرارات التي تخصهم، مثلا لايوجد اي شخص ايزيدي او صابئي او كاكائي او بهائي في رسم السياسات او التشريعات، ويمكن ملاحظة هذا الامر ايضا بوضوح من الكتابات التي تخص العلمانية والتسامح وقبول الاخر التي تنتشر هنا وهناك والتي تنتقد الحكومة العراقية في انها تمارس سياسة تهميش الفئات وتقرر شكل الانتماءات والمسؤوليات للبعض دون الرجوع اليهم، وتهمل وتغلق ملفات تخص قضية معينة بعيدا عن اية اعتبارات تقر بذلك الامر ، كما تشير المادة 2 من اعلان اليونسكو الذي سبق الاشارة ص38 بالقول ” السياسات التي تشجع على دمج ومشاركة كل المواطنين تضمن التلاحم الاجتماعي وحيوية المجتمع المدني والسلام. وبهذا المعنى فأن التعددية الثقافية هي الرد السياسي على واقع التنوع الثقافي. وحيث انها لايمكن فصلها عن وجود اطار ديمقراطي فأنها تسير المبادلات الثقافية وازدهار القدرات الابداعية التي تغذي الحياة العامة”.
قد نجد بعض السياسات الحكومية التي تشجع التنوع الثقافي هنا وهناك مثل ما قامت به وزارة الثقافة في الحكومة الفدرالية باقامة المهرجانات الثقافية للمكونات المختلفة في الاشهر الاخيرة من 2012 وفي الربع الاول من 2013 مثل المهرجان الثقافي للايزيدية ، مهرجان الشبك، التركمان والكلدو اشوريين وبناء مركز معرفي للصابئة ، الا ان الاقرار بالامر من قبل الساسة لم يكن بالمستوى المطلوب، فمثلا في المهرجان الثقافي الايزيدي الاول في بغداد الذي عقد في 12 كانون الثاني 2013 لم يحضره سوى مسؤول حكومي واحد، ولم يتم التأكيد هل هذا الامر سيصبح سنويا ام لا، ورغم البساطة في الموضوع بخصوص المكونات الاخرى ألا انها جاءت بمبادرة مشجعة من شخص وكيل وزير الثقافة السيد فوزي الاتروشي الذي يشجع على التنوع والتعددية الثقافية، اذ لايمكن ان نجد نفس الامر في مؤسسات اخرى.
الى جانب ذلك تبقى القرارات والتصريحات التي تشجع على قبول التعددية الدينية عاملا نحو مزيد من الترسيخ نحو قبول التعددية بمفهومها العام، ويمكن اخذ مبادرات و تصريحات السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بهذا الخصوص محمل الجد والاهمية ، اذ خلال زيارته للايزدية والمسيحيين في قضائي برطلة وسنجار شباط 2012 اللذان يمتازان بالتنوع الديني اكد على مبدأ التعددية الدينية وحق كل المكونات في ضمانة حقوقها في العراق الجديد. اذ قال : ((اهمية أن يتحمل العراقيون بعضهم البعض الآخر بما يعزز الشراكة في الوطن الواحد … سنجار له تاريخ طويل في التآخي والتعايش بين جميع الأديان والقوميات، وأن الايزيديين لهم مكانة عميقة في قلوب ابناء الشعب العراقي)) – فرات نيوز 13 – شباط 2013 . اذ تعد هذه التصريحات اذا ما ترجمت الى سياسة عامة تنفذها الحكومة عاملا مشجعا على قبول التعددية الدينية التي تعد الابرز في العراق كعائق امام الاستقرار على جميع الميادين والاصعدة.
ان الرؤية الاشمل نحو ترسيخ ثقافة التعددية من خلال السياسات الحكومية يتمثل وفق ما اشارت اليه ( د. كردستان سالم سعيد- ص 244) في المصدر الذي سبق الاشارة اليه : يمكن تحقيق وحدة وطنية في الدول التي تضم جماعات اثنية مختلفة بتبني الاليات الدستورية التي تحقق ذلك لأنه بخلاف ذلك ستكون وحدة شكلية ويفتقر البلد للاستقرار.
وفي الموضوع نفسه يمكن ملاحظة الكثير من الامور الهامة التي تتعلق بأثر السياسات الحكومية في تنمية التعددية وخاصة التعليم العالي، ففي وقت تتجه الدول لعلمنة التعالي العالي وابعاد خطط التعليم عن الطابع الديني، يسير قطار التعليم في العراق بالاتجاه المعاكس تماما ،،، فالقرارات الشخصية مثلا التي تفرض نوعية معينة من الملابس والانظمة والمناهج، وبمباركة وزارة التعليم يبين فشل الحكومة الفدرالية في العراق في انها مهتمة بتطبيق السياسات الحكومية في تشجيع التنوع الثقافي، فكيف يقبل المسؤولون الحكوميين ان يقولوا انهم مع ثقافة التعددية والمئات من الطلبة الايزيدية والمسيحيين يتركون الدراسة في الموصل بسبب سياسة التمييز والخوف من فرض القرارات والقوانين عليهم، هل يعقل ان يقدم الايزيدي والصابئي رسالته للماجستير بآيات قرأنية ( مع جل احترامي للقرأن ككتاب مقدس للمسلمين)، هذه الاشياء البسيطة هي التي تترك في نفوس اتباع الاديان المختلفة الشعور بالريبة ان الحكومة لاتنفذ اية سياسات عامة تشجع التنوع ، وألا لبدأت من هذا الامر ( يفرض على كل طالب ماجستير حتى وان كان غير مسلما ان يكتب نص قرأني في بداية رسالته للماجستير و كذلك اطروحة الدكتوراه ) كأن الاديان الاخرى لايوجد فيها نصوص مقدسة .
الامثلة اعلاه لم تكن سوى مواضيع لها علاقة بالسياسات الحكومية التي تشجع على التعددية في وقت من الضروري الاشارة ان الامر يختلف الى حد كبير نحو الافضل في اقليم كوردستان مع وجود ثغرات في تعامل القوى السياسية والسلطات في التعامل مع التعددية ، لكن الامر ليس كما في باقي العراق بالتأكيد ، اذا ما لاحظنا الازدهار الثقافي والاعتزاز بالهوية والعمل على المحافظة عليها بدعم حكومي لكل المكونات ، مع وجود مايشبه الفراغ او التراجع في بعض المسائل التي لها علاقة بالتعددية الدينية متأثرين بالسياسات والسياسيين والمسؤوليين الحكوميين الذي يبنون قراراتهم وفق افاق دينية ضيقة ، اذ لايزال الامر بحاجة الى الكثير من العمل، ويمكن الاشارة بشكل منفصل الى اقليم كوردستان بهذا الخصوص اذ سيكون التقييم اكثر انصافا.
ان الحكومة العراقية مطالبة بتحقيق التعددية على اوسع مجالاتها، والا ان الغاء الاخر سيستمر، و تشتت الوحدة الوطنية سيستمر، والتقوقع والانتماءات القبلية والدينية ستتسع ، ولن يكون هناك أية افكار نحو عراق يقبل التعددية، فما موجود الان هو قليل من كثير حتى تتحقق التعددية في كل المجالات والسياسات الحكومية التي تشمل كل مجالات الحياة تعزز التعددية عندما تكون منصفة وعادلة، وليس ببعيد لكي نثبت عكس ما توجهنا اليه الاشارة ان الحكومات العراقية السابقة وحتى الحالية تتبع نفس المنهج في سياسة تميزية في التعامل وتخصيص الميزانية واقامة المشاريع الاقتصادية ايضا، لانها لاتمتلك الرؤية العلمية ان اهمال المناطق التي تختلف في الانتماءات يعزز لدى اتباعها الشعور بالاهمال عندما لايوجد في مناطقها اهتمام اقتصادي ملائم وهو ضد تنمية التعددية.
هذه الامور جميعها يمكن لكل واحدة اقامة دراسة منفصلة عنها، واذا كانت الحكومة في بغداد فعلا مع تنمية التعددية الثقافية التي هي الاساس لتنمية التعددية في كل المجالات فأنها مطالبة بمراجعة القوانين والقرارات التي تتعلق بهذا الامر، وفرض العقوبات الصارمة على الذين يعملون عكس هذ الاتجاه ، و التأكيد على مبدأ العلمانية لأنه الفضاء الذي تنمو في ظله كل المكونات ويتسع مشاركتها في بناء البلد وتترسخ التعددية على اوسع مجالاته.
كذلك ومن اجل تحقيق المزيد من ترسيخ التعددية في المستوى العام للمجتمع يتطلب الاهتمام بالارث الثقافي والديني بشكل عادل وتخصيص ميزانية منفصلة عن الميزانية الرسمية للمناطق ذات التواجد المكثف للمكونات المختلفة لأنها تعاني الكثير من الاهمال والتقصير الحكومي في توفير الخدماتـ كما ان الاهتمام بالتعليم ومجالاته لترسيخ التعددية ام هام من خلال وضع المناهج الخاصة واقامة الفعاليات والمهرجانات و المؤتمرات السنوية التي تهتم بهذا الامر لكل المجالات التي تخص التعددية .
———————————–
* باحث في مجال الاعلام وحل النزاعات وبناء السلام والاقليات
Khidher.domle@gmail.com