حسام سالم
صدر حديثا كتاب الاقليات في العراق الذاكرة, الهوية, التحديات, لمؤلفه سعد سلوم استاذ علم السياسية في جامعة المستنصرية في بغداد, حيث صدر عن مؤسسة مسارت للتنمية الثقافية والاعلامية في بغداد بالغتيين العربية والانكليزية, وساهم في كتابة بعض محاور هذا الكتاب العديد من المثقفين من ابناء الاقليات والاكاديميين ايضا. وقبل ان انتهي من قراءة هذا الكتاب ملكتني رغبة الكتابة عنه لما يحمله من قيمة علمية وانسانية ومعرفية تمس واقعنا اليومي المعاش,لذا اتصلت بالزميل سعد سلوم للكتابة عن هذا الكتاب فوافق مشكورا وذلك لتعميم الفائدة.
ختم المؤلف كتابه حيث كتب “ان هدف هذا الكتاب لم يكن تقسيم المجتمع العراقي الى اغلبيات واقليات, بل اطلاق تحذير من ملامح الكارثة التي تحيق بنا,بداية النهاية بالنسبة للعراق,وما هذه النهاية في نظري سوى نهاية فكرة العراق بحد ذاته, بوصفه ميراثا حضاريا ودينيا وثقافيا تعدديا غير وجه العالم القديم , ونهاية العراق الحديث الذي انطلق في عشرينيات القرن الماضي في ظل تعايش الجماعات وتاخيها. اي باختصار نهاية الوطنية العراقية المحلية المستمدة من الاعتزاز المشترك لجميع العراقيين بالتراث الغني لبلاد مابين النهرين”. ان هذه الخاتمة لهي دليل على البعد الثقافي والانساني والتعددية الثقافية التي يتميز بها العراق والذي يسعى الكتاب لمناقشتها من خلال فصوله التي تبدأ عن يهود العراق والذي اطلق عليها ” اليهود: الهجرة القسرية وتلاشي حلم العودة”, وفي هذا المحور يناقش الباحث وضعهم كأقلية دينية عاشت في العراق لالاف السنين واندحرت وهاجرت في خمسينيات القرن الماضي, ويتطرق الى ما ساهمت به هذه الاقلية في المجتمع العراقي على الصعيد الثقافي والاقتصادي والتجاري والذي كان لها دور بالمساهمة بتشكيل اول حكومة عراقية من خلال وصول اول وزير يهودي في اول حكومة عراقية وهو حسقيل ساسون وزير المالية انذاك ومؤسس النظام المالي العراقي على الاسس الحديثة, وفي هذا الجانب يناقش الكتاب اهمية ومعاناة هذه الاقلية التي عاشت في العراق لسنين طوال ولكنها اندثرت. ويتطرق الكتاب الى اوضاع المسيحين تحت عنوان ” انحسار الوجود وتحديات الهجرة” حيث يربط استمرار هجرة مسيحيي العراق الى تبدل هوية البلاد وتحولها من بلد تميز بتنوعه الثقافي والديني الى احادية الثقافة, ويتحدث عن الاسباب التي دفعتهم وتدفعهم الى الهجرة وهي الوضع الامني والملاحقة على اساس التمييز وغيرها من الاسباب وايضا عن طوائفهم ودور الكنيسة في الحفاظ على وجودهم وبقائهم.وذلك باعتبار المسيحيين من السكان الاصليين للعراق وهم ينقسمون الى كلدان واشوريون وسريان وهذه الاقوام كان لها دور في تشكيل حضارة العراق.وكما ساهم المسيحيون في بناء الثقافة العراقية,من فن,وغناء, وشعر,وغيرها.
ينتقل الباحث الى المحور الثالث من كتابه الذي يغوص في معاناة وتاريخ اقليات دينية وعرقية واجتماعية تبحث عن ذواتها الجريحة حيث يكتب عن الايزيدية تحت عنوان” جماعة عريقة في مواجهة حاضر قلق” فقد جاء في هذا الفصل عن اصل الايزيدية وتسميتها وعن ماهيتها الدينية وكتبها المقدسة.ويتطرق ايضا الى طبقاتها الدينية وتوزيعهم الجغرافي والنهضة التي حصلت لهم بعد 2003 حيث تم فتح العديد من مراكز ثقافية لهم وصدور جرائد متخصصة في مناقشة واقعهم والتعريف بديانتهم وذلك لما عانوه من تشويه وطمس لتاريخهم وعقيدتهم وغيرها من الامور التي تخص هذا المكون.وفي ص105 يتحدث الكاتب عن المندائيون “المندائيون ثقافة الفية تحت خطر التلاشي” ويتطرق الى لغتهم والتي تعتبر من لهجات اللغة الارامية الشرقية واصل تسميتهم ,التي تعتبر مشتقة من اصل الفعل الارامي (صبا) حيث تعني باللغة الارامية المندائية اصطبغ او تعمد, ولهذا دلالة على ارتباط طقوسهم الدينية بالماء الجاري وتعمدهم به. وكما يتطرق الباحث الى موطنهم الجغرافي بالقرب من الانهار في جنوب العراق ومناطق الاهواز في ايران,ويشيرالى معتقدات الصابئة المندائية, التي تعتبر من الديانات التوحيدية القديمة والتي كانت منتشرة في فلسطين والحجاز وبلاد النهرن, وانها من الديانات التي تؤمن بالله ووحدانيته , وتؤمن بان الجسم فان, وان النفس خالدة تعود بعد الممات الى خالقها.وكما يذكر كتابهم المقدس (الكنزا ربا) والمكتوب باللغة الارامية المندائية, وايضا الى رموزهم الدينية (الدرافشا) والذي يوازي رمز الصليب لدى المسيحين.هذا بالنسبة للاقليات الدينية الثلاث المعترف بها والتي يتطرق لها الباحث في كتابه ولكنه في محاور اخرى يتطرق الى اقليات اخرى حيث يكتب عن البهائيون ” اقلية دينية تعيش في الظل” وتعتبر هذه الاقلية من الاقليات الدينية الصغيرة في العراق, وهم يعتنقون احدى الديانات الحديثة في العالم المعاصر , وعن تواجدهم فهم يسكنون في كل انحاء العراق ويتركزون في مدينة السليمانية بسبب استقرار الوضع الامني والاجتماعي هناك, وهم لا يحضون باعتراف رسمي, وعقيدتهم هي وحدة البشر وكل العقائد حيث ظهرت هذه الدعوى لاول مرة في ايران في عام 1844,ومن ابرز معالمهم المقدسة البيت الذي سكنه البهاء في بغداد جانب الكرخ بعد نفيه من ايران, وحديقة الرضوان التي قام باعلان الدعوة فيها , وكما يحتفل البهائيون بعيد الرضوان تمجيدا لذكرى اعلان بهاء الله دعوته في هذه الحديقة على مدى 12 يوميا من شهري نيسان وايار.وتقوم البهائية على ثلاث انواع من الوحدة ترتبط ببعضها البعض ارتباطا وثيقا وهي: وحدة الخالق, ووحدة الديانات في اصلها ومنبعها واهدافها, ووحدة الجنس البشري,ويؤمنون بان الاديان جميعا حقيقة واحدة.
يتطرق في هذا الكتاب ايضا الى اقلية السود (الزنوج) ” ذاكرة جريحة وهوية مستعادة” حيث يفتتح هذا المحور من خلال مقولة لعمر ابن الخطاب الخليفة الثاني للمسلمين ” متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا” ويحكي عن تاريخ وجود السود في العراق حيث يرتبط بتاريخ الحروب والغزوات التي استهدفت القارة السوداء “افريقيا” وينتقل بعدها الى الكرد الفيلية “شقاء الهوية المركبة,وجراح الذاكرة الجماعية” فيتحدث عن الكرد الفيلية الذي يعتبرون شيعة المذهب وكردا من الناحية العرقية والقومية والذين يوجدون في العراق وبغداد وقد تعرضوا الى الملاحقة نتيجة تبعيتهم الايرانية وليست العثمانية كبقية الكرد الذين يتمذهبون بالمذهب الشافعي, وبعدها يطرق الباحث بابا جديدا الا وهو الكاولية “الغجر” تحت عنوان ” تحديات التاقلم مع واقع متغير” وهو يصف الوضع الذي تعرضت له هذه الفئة الاجتماعية نتيجة القتل والملاحقة وعدم الاستقرار لما يرتبط بمهنتهم وواقعهم الاجتماعي المتردي وبعدها يتحدث الكتاب عن الشيخية ” اقلية داخل اغلبية مذهبية” وسميت نسبة الى شيخها المؤسس احمد زين الدين الاحسائي الذي ولد سنة (1752م) في مدينة الاحساء في السعودية, حيث يتحدث عن هذه الفئية ومعانتهم وهجرتهم الى العراق من السعودية, وينتقل بعدها الباحث الى التركمان تحت عنوان “ثالث الجماعات العرقية في العراق” ودورهم في العراق من الناحية الثقافية والسياسية والفنية والتاريخية , وعن مناطق وجودهم والبحث عن نيل حقوقهم.ولياتي الحديث بعدها الى الشبك تحت عنوان ” هوية صغرى تصارع هويات كبرى” والتي توجد في مناطق سهل نينوى وهي اقلية لغوية يعتبرها البعض قومية قائمة بذاتها بينما يعتبرها الاخر من العشائر الكردية من الناحية العرقية, وتنتمي هذه الاقلية الى الدين الاسلامي على المذهبين الشيعي والسني ,بينما لا زال الكثيرين يعتبرها اقلية دينية, وهذا خلاف للواقع الموجود.ويختم الكتاب عن اقلية اخيرة الا وهم الكاكئيون ” سرية المعتقد ورمزية التعبير” وتعتبر الكاكئية من الاقليات الدينية التي تنتشر في شمال العراق وتمتاز بالسرية والغموض في ممارسة شعائرها الدينية, فضلا عن تداخل الاديان والعقائد في عقائدهم,ويشير الى اصل تسميتهم والتي هي مشتقة من (مفردة (كاكا) الكردية,وتعني الاخ الاكبر,وايضا عن طبيعة التقسيم الديني والاجتماعي الذي يمتاز بها المجتمع الكاكئي والذي ينقسم الى طبقات عديدة.
ان هذا الكتاب القيم لا يغفل اهمية المراة في الاقليات حيث يتحدث عنها وعن معاناتها وهمومها , وايضا عن دور الاقليات في الحياة العامة ومشاركتهم الثقافية والسياسية والاجتماعية,ويتطرق الى اهمية تعديل المناهج الدراسية في العراق بما يتلائم مع التعددية الثقافية وكتابة التاريخ برؤية جديدة تتلائم مع الواقع العراقي الغني بالتنوع.و لايكتفي الكتاب عند هذا الحد بل يتحدث عن الاقليات في الرواية والثقافة الموسيقى العراقية وايضا في السينما تحت عنوان “نحو سينما للاقليات العراقية” وينتهي الكتاب بمستقبل الاقليات والتحديات التي قد تمر بها بالستقبل “نحو تشكيل ذاكرة تعددية في العراق” و “نحو مقاربات تكاملية لحل مشكلة الاقليات في العراق”.
ان هذا الكتاب يعتبر بحق كتاب شامل وجامع للاقليات الموجودة في المجتمع العراقي وهو دراسة اجتماعية وسياسية وانثروبولجية وتاريخية قيمة تناولت جوانب عديدة في المجتمع العرقي ويعتبر الاول والفريد من نوعه, الذي يبحث عن خلق مواطنة عراقية حقيقة تحترم التنوع والتعدد بمفهومه الشامل الذي يشمل كل جوانب الحياة لتشكيل ذاكرة عراقية وعقل جمعي عراقي واعي بتراثه المتنوع والمتعدد,لبناء مفهوم مواطنة حقيقة في ظل الذاكرة المجروحة للفئات المهمشة الخارجة عن دولة المذهب , وانما تشكيل دولة التنوع , دولة المواطن.