خضر دوملي * بعد مضي سنتين على دخول القوات الامريكية الى العراق في ربيع 2003 شهدت الساحة السياسية اولى بوادر النزعات الدينية… وفي كل عام من ذلك التاريخ الى الان اصبح طابع الصراعات والاحداث والفوضى والانفلات الامني التي تشهدها المدن العراقية يأخذ في جانب من جوانبه طابعا دينيا بحتا مما اضفى على طابع الحياة العامة في البلاد طابعا دينيا ضيق الافق لايتلائم والواقع والعصر الراهن.
انتشار التطرف الديني الذي كان بداية لظهور هذا الامر جاء على اثر استهداف العاملين مع القوات الامريكية والمتحالفة معها في مختلف مدن العراق، واسهم الخطاب الديني في تأجيج ذلك الامر ليصبح اساسا يرتكز عليه النزاع بشكل كبير لاستغلاله لمحاربة القوات الامريكية من خلال التحريم في التعامل معها واستهداف او قتل كل من يتعاون معها. سواءا بدفع من الموالين للنظام السابق او المعارضين للوجود الامريكي في العراق باي شكل من الاشكال، فلم يكن احسن من استغلال الخطاب الديني لتوظيفه في الامر .
وكانت الاعمال التي حدثت بهذا الخصوص شرارات نزاعات دينية بحتة ـ توسعت وتبانيت في منطقة دون اخرى، واختلفت في المضمون من جانب لاخر، او فئة لاخرى حيث اصبح المسيحيين الذين يتعاملون مع المحتل مستهدفين، وأخذت وسائل الاعلام تروج لهذا الامر على شاكلته، بل ان بعض وسائل الاعلام كانت المحرضة لهذا الامر بشكل غير مباشر، مما خلق شيئا من الخوف والنفور بين ابناء هذه الديانة رغم ان الامر كان مستهجنا من قبل الغالبية العظمى من المسلمين انفسهم.
الامر الاخر الذي فتح علاقة الاعلام بانتشار التطرف الديني وتوسع النزاع الديني على مصراعيه كان الانقسامات الدينية في تجاه بعض المواقف والاحداث التي ظهرت في العراق وشاهدنا كيف ان الخطاب الديني اصبح ينتشر بكثرة في وسائل الاعلام وشاع التقليد في التأثر بتلك الخطابات والشخصيات من طريقة اللبس او قص اللحية او غيرها من المؤشرات التي اصبحت تحتل الشاشات وصدراة الصحف. واصبحت الجرائد والمجلات ومحطات الاذاعة التي انتشرت بكثرة تستضيف رجال الدين لتقحمهم في كل شي، وتستأنس برايهم في كل الامور. وهذا الامر اضفى التحليل الذي يستند على الرأي الديني قبل غيره من الاراء، واصبح رأي رجل الدين هو الفيصل في كل الامور، ثم ان ظهور رجال الدين في البرامج الحوارية أخذ شيئا فشيئا يزداد، وباتت الفضائيات تمنحهم المساحة المجانية لتفسير كل الامور على هواهم، لا بل شهدت بعض البرامج الاستئناس بأراء رجال دين لايزالوا صغارا على التحليل وأعطاء الاحكام والراي الصائب في قضايا حديثة على الاجتهاد، ثم انفلت الخيط، وتدحرجت الفضائيات لتفسح لهؤلاء بنشر الافكار التطرفية والافكار التي تلغي الاخر، وتشعل فتنة طائفية كانت خامدة لقرون عديدة بين الشيعة والسنة.
هذا الطابع الذي اتخذته وسائل الاعلام في عملها فسحت المجال امام بعض الجماعات لفرض ارائها وتوجهاتها ونجم عنه تغير في المواقف وتغير الطابع الاجتماعي للعلاقات بين الجماعات المختلفة مما خلفت بضلالها الاسود على الواقع العام للحياة اليومية للناس، بحيث بات استشارة رجال الدين تتم عن نوع الطعام الى العلاقات وطبيعتها عن الملبس والزيارات، عن اختيار القنوات و مصاحبة الناس وما الى ذلك من مشاهد ترسخت بسرعة في اذهان الناس تتعلق بتأثير الدين السريع على الناس، دون ان يكون لوسائل الاعلام موقفا مؤثرا لأقتراح البدائل لهذا الامر ، بل مزجته في الكثير من الاحيان بالكثير من الترسخ في برامج قدمت خصيصا عن هذه الامور من قنوات تلفزيونية معروفة بطابعها الديني.
انتشرت افاق النزاع الطائفي والديني في وسائل اعلام بشكل غير مدروس، واصبحت الصحف ساحات لتبادل الاتهامات، و نقل تصريحات شديدة اللهجة، و تحمل في طياتها الكراهية والبغضاء واستغلت الجماعات المسلحة وسائل الاعلام فنشرت الافكار التكفيرية ونقل محطات التلفزين مشاهد حية للقتل والذبح. هذه المشاهد والصور التي جاءت على اثر انتشار عمليات التفجير والانتحار التي تبادل المنفذون في استهداف مناطق شيعية لتقابلها في الجانب الاخر استهداف مناطق سنية في بغداد والعديد من المدن العراقية ، ما جعلت نقل هذه المشاهد من قبل وسائل الاعلام كأنها شريكة في العملية تتسابق في عرض الصور والتصريحات وفي الكثير من الاحيان دون التأكد منها.
الاقليات الضحية الاكبر للنزاع الديني في العراق
الصورة فيما يتعلق باستهداف ابناء الاقليات كانت اكثر دموية، واكثر تأثيرا لأن وسائل الاعلام نقلتها بشكل استفزازي، بعيد عن المهنية، عرضت الصور والمشاهد وكأنها تقول لهم اتركوا البلاد، واستمرار عمليات تصفية ابناء الاقليات التي لاتزال مستمرة كانت صورة مستمرة في وسائل الاعلام العراقي، والى الان لم تستطع ان تتعاطي بمهنية عالية مع الموضوع، وهو ما جعلت هذه الاقليات عرضة لعمليات التهجير والترحيل القسري مما خلقت اجواء محزنة لدى معتنقي الاديان الاخرى ( المسيحيين، الايزيدية، الصابئة والبهائية والكاكائية الذين اختفوا شيئا فشيئا من الساحة). لأنهم شعروا بتحمل اثار مضاعفة للنزاع الذي كانت وسائل الاعلام أحد عوامل توسيعه تتعلق بما تعرضوا له من خسائر في الارواح والممتلكات من جانب، والاخر خسائر نفسية من تعرضهم لخطاب اعلامي مؤثر وممنهج سلبي بدلا من ان يكون عاملا لاستقرار نفسي ، كان فاعلا في خلق الشعور بأنهم وحيدون، لا احد يعير لأمر استهدافهم اهمية.
الاثار التي تركتها النزاعات المباشرة ضد الاقليات ولم يكن لوسائل الاعلام اي تأثير في الحد منها او محاولة تصحيح الصورة تمثلت بعدة اشكال حيث نزح ( الاف المسيحيين من جنوب العراق، اذ تبدو البصرة التي كانت تزدان بوجود العديد من الطوائف المسيحية بأنها الان بدأت تقذف هؤلاء الى خارجها، وهاجر عشرات الالاف البلاد الى اوربا واسيا واستراليا وامريكا،،، وتشير الارقام غير العلنية بأن عدد المسيحيين الذين بقوا في العراق الان لايتعدى الـ (500000 خمسمائة الف نسمة ) … الصورة الاخرى لتغطية وسائل الاعلام لواحدة من مظاهر النزاع كان بخصوص الايزيدية الذين ترك الالاف منهم مدينة الموصل وحدثت العديد من المحاولات لأستهدافهم، وكانت ابرزها ما حدث في الـ 14 من شهر اب 2007 حيث استهدفت اربعة انفجارات ناحية ( كر عوزير وسيبا شيخ خدر في قضاء سنجار ) اسفرت عن سقوط ما يقارب الف قتيل وجريح وتدمير حوالي 400 منزل ،، لم تظهر الصورة الصحيحة للتغطية الاعلامية، و بدا الانحياز والتأثر بالانتماء الديني واضحا في تغطية العديد من الصحف والمحطات التلفزيوينة والكثير من الحوادث التي وقعت ضد الايزيدية منذ تلك الحادثة وكذلك تلك التي حدثت ضد الصابئة او الشبك، المستمرة ضدهم في الموصل واستهداف معبد البهائية في بغداد ومصادرة بيت بهاء الله ، كل هذه الاحداث جعلت الهروب الى الجانب الاخر من الحدود حلم عشرات الالاف من ابناء الاقليات، ورغم كل ذلك لم يكن هناك خطاب اعلامي يحد من هذه الازمة، او يعمل على تخفيف حدته، او يدعو الى وضع حد لمشاكلهم واستهدافهم المستمر … هذا الامر اصبح مادة اعلامية دسمة فتورط الاعلام في الترويج له بشكل غير متقصد مما جعله عاملا للنزاع الديني وهو ما اسفر عن ظهور الانقسامات بين هؤلاء انفسهم.
مظاهر هذا النزاع انعكست بشكل مباشر في الخطاب الاعلامي للعديد من وسائل الاعلام، الحزبية، والتي تدعي الاستقلالية، مما حدا به ان يترسخ في ثقافة الشارع العام واختلطت المفاهيم لدى العامة عندما يرون اي شخص مختلف عنه في الدين او الطائفة او العرق والقومية، كأنه في عالم اخر، وكأنه لم يلد على هذه الارض، ونقل الكثير من ابناء الاقليات عبارات الاشمئزاز التي سمعوها من أناس كانت تربطهم بهم علاقات قوية على مدى سنوات سابقة، ، واصبح الحديث عن الكوردي بجدية عند العربي محل شك والحديث عن التعدد الديني وضرورته محل اشمئزاز من قبل العديد من المواطنين من انتماءات مختلفة الذين باتوا يرفضون قبول الاختلاف من العائلة صعودا للجامعات التي انتشرت فيها الافكار التطرفية بشكل صريح وواضح جدا بما جعل منها محط خوف شعبي . هذا الشيء جاء نتيجة فشل الاعلام في تغيطة الاحداث، والوقوف من جميع الافكار بمسافة واحدة ونبذ الافكار التطرفية او على الاقل عدم فسح المجال في ان تكون وسائل الاعلام في خدمتها، او على الاقل عدم تشجيع ونشر الخطاب الاستعلائي و التطرفي، و الطائفي .
ان عدم فاعلية الاعلام في نشر وتعزيز ثقافة وفلسفة قبول الاخر على مستوى واسع كان له الاثر ايضا، اذ بقت هذه الثقافة تتركز فقط في المراكز الرئيسية ( مجتمع مدني، حلقات حزبية ضيقة، اتحادات وجمعيات ،،، والخ ) دون خروجها الى الواقع لكي يتأثر بها العامة ، اذ تعد هذه مسؤولية كبيرة من مسؤليات وسائل الاعلام ، كما انها لم تنجح في توجيه رجال الدين لكي يساهموا عبر وسائل الاعلام في التأكيد على التعددية الدينية وهي مهمة كبيرة من مهامهم اولا واخيرا وذلك لتأثر الشارع العام بما يبثونه من خطاب…. فعندما يشير رجال الدين الى المختلفين دينيا بانهم كفرة وملحدين ، وينسون الاشارة الى الجوانب الاخرى في الخطاب الديني الذي يدعو الى التسامح وقبول الاخر او بما تدعو اليه من ان الاختلاف سمة ربانية لا أرادة لأحد عليها. يكون الامر وبالا على المختلفين دينيا ( ذوو الاقليات )، وهذا الامر لم تستطع وسائل الاعلام ان تضع له خطابا معاكسا، او تحد من تأثير هذا الخطاب بنشر المعرفة الصحيحة عن هؤلاء، فكل ما كانت تعمله هو نقل المناسبات والاحتفالات الدينية بشكل جدا بسيط دون الكثير من المعرفة والمعلومات .
في صفحة اخرى من صفات الاعلام وتأجيج النزاعات في العراق توفرت له الارضية بوجود محطات اعلامية يدفع لها اموال طائلة كي تعمل وفق منهج ديني او خط ديني محدد،،، ولذلك ساهمت الاعلام تلك ولاتزال في انعكاس النزاع الديني الذي رافقه نزاع مذهبي ( شيعي – سني) على العديد من المحطات التلفزيوينة وبرامجها الاخبارية والحوارية وتغطيتها للاحداث، وانحازت محطات تلفزيوينة بشكل واضح وعلني في عمليات تأجيج النزاع الطائفي مما خلق توترا لدى العامة فحدثت عمليات نزوح سريعة،،، كما يحدث الان في الفلوجة والرمادي. وهو تبين بشكل واضح بان النزاع الديني في العراق ترك طابعا سيئا من جراء التدخل الاقليمي الذي تناولته وسائل الاعلام وفق الاجندات التي ترتبط بها من تلك الدول الاقليمية التي تمول وتقف خلف تلك الوسائل الاعلامية وخلف صحفيين باعوا ضمائرهم وباتوا يروجون للعنف والكراهية فاصبح هذا الواقع ينعكس في وسائل الاعلام بما يؤشر عليه من انه واقع لابد منه، ليتحول الى منهج للعمل وصل الى حد ان يدعو رئيس جميعة للدفاع عن حقوق الصحفيين الى الكراهية والطائفية ومباشرة.
جراء ذلك وقعت وسائل الاعلام في اخطاء كثيرة أثرت في هذا النزاع لأنها روجت له احيانا، واحيانا اخرى نقلت الاخبار الناجمة عن هذا النزاع الذي لايزال يشتد ويخف في منطقة دون اخرى بشكل غير مهني، ويمكن ملاحظة الاهتمام بالبيانات التي نشرتها الجماعات المسلحة ضد الايزيدية والمسيحيين في الموصل في بدايات حدوث الاعمال الطائفية مطلع عام 2006 والان ما يحصل مع الشبك بشكل مثير مما خلق انطباعا لدى الناس العاديين من ان الاعلام يقف في جانب هذه البيانات، لأنها لم تكمل بردود فعل مهنية او تخصصية عن تأثير تلك البيانات على الواقع العراقي.
ان انتشار الافكار المتطرفة او التي تدعو الى بث الفرقة والاختلاف بين المكونات الدينية العراقية المختلفة احدثت بما يسمى الهاجس اليومي للقتل لدى تلك المكونات، وهو الامر الذي لايزال يعتبر حجة لحصول ابناء تلك المكونات الدينية على حق اللجوء في الدول الاوربية، وهو اصبح يتخذ كذريعة للتدخل او مطالبة الحكومة العراقية باعادة الامور الى نصابها لكنها لم تعد تسيطر على الساحة.
هذا الامر يذكرنا بضرورة اعتماد وسائل الاعلام على المصادر الرسمية والاقاويل الرصينة في نشر ثقافة التسامح الديني بشكل اكبر مما هو عليه الان، لقلب تلك الصفحات وبناء العلاقات بين المكونات المختلفة بما يساعدها على الاعتزاز بانتمائها العراقي اولا ومن ثم التفكير والعمل كيف يكون المجتمع اذا كان فيه فئة واحدة ورحل عنها ابنائها الاصلاء والقدماء.
فالتعدد الديني يجب ان يكون عاملا للتوحد وليس للتفرقة وعلى وسائل الاعلام ان تقوم بعكس ذلك ايجابيا وليس الحديث عن الاديان وابنائها فقط في المناسبات والاعياد. والتأكيد بأن الترويج للخطاب الديني اي كان شكله باستمرار وفي كل الاوقات والمناسبات يعني عدم الاستطاعة في فسح المجال للخطاب المعتدل بنفس المساحة، وهو ما يعني اضطرار الالاف للاستماع لخطاب مكفهر الوجه، مليء برفض الاخر، اذ لابد لوسائل الاعلام ان تتحرك كي تبني جسور التواصلن و تساهم في نشر المعرفة عن التعددية الدينية لنه السبيل الى فهم الاخر المختلف والاقرار بوجوده وحقه في الحياة والمواطنة.